تحليل : الدكتور فؤاد علي ناصر الحاج
يطوي العام 2025م صفحته على إيقاع بشرى جميلة، ويضع الجنوب على أعتاب عام جديد محمّل بدلالات التحوّل. فمنذ الثالث من ديسمبر وحتى التاسع عشر منه، لم تكن الوقائع مجرّد أحداث متفرقة، بل مسارًا متكاملًا أعاد تعريف المشهد، ورسّخ يقينًا قديمًا في وجدان شعبنا: أن لحظة الانعتاق والتحرر آتية لا محالة.
في النظرة العامة لواقع الثورة الجنوبية وتضحيات شعبنا وإيماننا بقضيتنا، لم يساورنا أدنى شك في أن هذا اليوم سيأتي. حتى عندما دلفت قوات الاحتلال إلى الجنوب، كان إيماننا قاطعًا بأن هذا الاحتلال سيرحل، وأن أعلام الحرية ستُرفرف من قمم شمسان وصيرة، وفي كل بقعة من الجنوب.
القراءة التحليلية لما جرى بين 3 و19 ديسمبر 2025م تكشف دلالات عظيمة؛ فهو تحوّل جيواستراتيجي لا مجرد عملية عسكرية، وتفكيكٌ لما تبقّى من منظومة احتلال جاءت منذ 1994م تحت يافطة “الشرعية”، فكانت في حقيقتها شرعية القوة والغاب والاحتلال. قلقٌ إقليمي هادئ رافق الحدث، لكنه قلق قابل للإدارة، إذا ما قُرئت الوقائع بعين الشراكة لا بعين الارتياب.
وانطلاقًا من ذلك، نتناول الموضوع عبر المحاور الآتية:
المحور الأول: تحوّل جيواستراتيجي لا مجرد عملية عسكرية:
ما حدث لم يكن اشتباكًا عابرًا ولا عملية أمنية محدودة الأهداف، بل عملية مخطط لها تحمل أهدافًا استراتيجية تختصر فكرة استعادة الدولة وتقرير المصير.
ويأتي هذا التحول في سياق تاريخي متصل بما آلت إليه الأوضاع منذ سقوط صنعاء في 21 سبتمبر 2014م، وبروز المشروع الحوثي كعقيدة سياسية–عسكرية ذات امتدادات إقليمية معروفة.
التحول الجيواستراتيجي هنا يتمثل في كونه سدًّا منيعًا يحمي أمن الجنوب والإقليم والعالم، ونقلة نوعية في خريطة النفوذ داخل اليمن، خصوصًا في الشرق الذي ظل خارج التحولات الكبرى منذ 2015م.
لقد خرج الجنوب من دائرة الدفاع عن جغرافيته التقليدية إلى فرض معادلة نفوذ جديدة تمتد نحو العمق؛ ليس بوصفه تموضعًا عسكريًا فحسب، بل مشروع دولة ينطلق من عدن، ويتصل بالخليج والبحر العربي وباب المندب والبحر الأحمر.
إنها حالة تشكّل جديد ترسم الصورة الرمزية والعملية للجنوب، وتفتح عهدًا لصناعة الاستقرار. وهي رسالة صريحة لإخوتنا في الخليج—وفي الإقليم والعالم—أن يُنظر إلى الجنوب شريكًا حقيقيًا لا متسوّل مواقف. وتجربتنا منذ 2015م حتى اليوم تشهد على صدق هذه الشراكة.
المحور الثاني: تفكيك سردية “الشرعية الواجدة”:
كشفت الوقائع هشاشة نموذج السلطة اليمنية المعترف بها دوليًا، وأبرزت حقيقة أن من يضحّي ويثبت على الأرض هو المجلس الانتقالي الجنوبي.
لقد أُنجز الجواب عمليًا قبل أن يُطرح السؤال: من يملك السيطرة على الأرض؟
وبات واضحًا للإقليم والعالم أن “الشرعية” تحولت إلى مفهوم سياسي أكثر منها واقعًا ميدانيًا.
المحور الثالث: التحليل الإقليمي (الخليج والشرق الأوسط):
نقول لإخوتنا في الخليج: قلقكم مفهوم ومشروع، لكن ليكن هادئًا لا صداميًا. فنحن معًا نصنع التحول المطلوب لأمننا الوجودي المشترك.
تقدّم قواتنا السريع لا ينبغي أن يثير لبسًا؛ فنحن يد واحدة في إعادة تشكيل توازنات تخدم أمن شعوبنا، مع ضرورة إعادة صياغة الاتفاقيات التي انتقصت من حق الجنوب في الحرية.
إن إعادة التوازن لا تعني إرباك المنطقة، بل تصحيح المسار الذي بُني بعد اتفاق الرياض على أسس مختلة. ونحن مؤمنون بتحالفاتنا وقضايانا المشتركة إيمان المؤمن القوي، والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
المحور الرابع: من الهامش إلى مركز اللعبة:
منذ احتلال الجنوب في 1994م جرى تغييب حضرموت والمهرة عمدًا: الأولى كمنطقة نفط “هادئة” تُنهب بعيدًا عن الأضواء، والثانية كـ“حديقة خلفية”.
الواقع الجديد أنهى هذه المعادلة:
حضرموت لم تعد منطقة نفط هادئة،
والمهرة لم تعد حديقة خلفية،
بل صارتا مفتاح أي ترتيب قادم للجنوب، ولأمن الإقليم والعالم.
المحور الخامس: تبديد التخوفات
يُثار تخوف من صراع داخل ما يُسمّى زيفًا “المعسكر الواحد”. والحقيقة أن الجنوب وما تُسمّى الشرعية لم يكونا معسكرًا واحدًا يومًا؛ فالعلاقة كانت علاقة احتلال ومحتل.
ورغم ذلك، أثبت الجنوب—بالتضحيات والالتزام—أنه شريك صادق، يحترم تحالفاته حتى حين تُستبعد قضيته. واليوم، تُظهر الوقائع من يملك مشروعًا ومن يفتقر إليه، ما يستوجب مراجعة الاستراتيجيات وبناء مقاربات واقعية ترى في المجلس الانتقالي مفوضًا حقيقيًا لتمثيل قضية الجنوب.
المحور السادس: قراءة براغماتية — من يضمن الاستقرار؟
من حق المجلس الانتقالي أن يقدّم نفسه ضامنًا حقيقيًا للاستقرار؛ فهو قادر على ضبط الأرض، وتأمين الموانئ والطرق، ومكافحة الإرهاب بشقيه.
وعلى الإقليم والعالم أن يتعاملوا مع الأمر الواقع، لا مع خرائط قديمة لم تعد تصف الحقيقة.
المحور السابع: حقوق الإنسان:
قضية الجنوب قضية عادلة تدعمها القوانين الدولية. وقد تعرّض شعبنا لانتهاكات جسيمة، ونطالب بتوثيقها دوليًا.
وفي الوقت ذاته نؤكد التزامنا بحماية المدنيين، ومنع الانتقام، وضمان الإدارة المدنية، فالْمظلوم لا يمكن أن يكون ظالمًا.
المحور الثامن: الخلاصة
ندعو الصحافة العالمية إلى توثيق ما يجري بموضوعية ومهنية. ونؤكد أن:
الجنوب لم يعد قضية مؤجلة،
شرق الجنوب العربي دخل مرحلة جديدة تتطلب إعادة تعريف وفق الوقائع،
الحل السياسي القادم لن يمر دون الفاعل المسيطر على الأرض.
وخاتمة القول:
ما حدث في سيئون والمهرة ليس نهاية مرحلة، بل بداية اختبار جديد لشرعية تُصنع من الميدان لا من البيانات؛ شرعية يصنعها الجنوبيون بوعيهم وفعلهم الرشيد، وهم يدخلون عام 2026م بثقة الشراكة، وثبات الهدف، ووضوح الطريق
#دوله_الجنوب_العربي